انقسامات اليمين المتطرف- غزة تفضح والصراع يتجه للقدس والضفة

المؤلف: د. عبد الله معروف09.23.2025
انقسامات اليمين المتطرف- غزة تفضح والصراع يتجه للقدس والضفة

في ظل دخول اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة حيز التنفيذ، وبروز حقيقة الإخفاق الإسرائيلي الذريع هناك، وهو ما تتناوله وسائل الإعلام والمحللون الإسرائيليون باستفاضة منذ التاسع عشر من الشهر الجاري، بالتزامن مع استقالة إيتمار بن غفير وأعضاء حكومته المنتمين لحزب "القوة اليهودية"، والانقسام الجلي بينه وبين حليفه بتسلئيل سموتريتش وزير المالية الإسرائيلي وزعيم تيار "الصهيونية الدينية"، ثم استقالة قادة في الجيش والمنطقة الجنوبية، تتوالى الأنباء لتؤكد على انتكاسة لم تكن متوقعة للتيار اليميني المتطرف في إسرائيل، ولا سيما تيار الصهيونية الدينية.

إن التراجع الإسرائيلي في غزة لم يستهل مع إقرار صفقة وقف إطلاق النار فحسب، بل بدأت إرهاصات الانشقاقات تلوح في الأفق داخل المعسكر الحربي في إسرائيل قبل ذلك، مع انكشاف الإخفاقات المتتالية للحرب الإسرائيلية على غزة، وبروز الفشل الشنيع الذي مني به الجيش الإسرائيلي هناك، حتى لم يعد لديه أية غايات واضحة في الحرب سوى التدمير المحض، والقتل المجرد، فتحققت فيه مقولة موشيه فيجلين، رئيس حزب "الهوية" المتطرف، عندما أطلقها خلال اقتحامه للمسجد الأقصى المبارك في نهاية أغسطس/ آب الماضي: "إننا ننتقل من فشل ذريع إلى فشل أدهى على الجبهتين؛ الجنوبية والشمالية".

هذه الانتكاسات التي يشهدها تيار الصهيونية الدينية يبدو أنها أحدثت ارتدادات قوية على تماسكه ووحدته، بعد أن كان على وشك الإمساك بزمام الأمور في إسرائيل خلال الشهور الخمسة عشر للحرب على غزة.

أول علامات الانشقاق بين أقطاب التيار تجسدت في تفكك التحالف المتين بين حزب "القوة اليهودية" بقيادة بن غفير، وحزب "الصهيونية الدينية" بزعامة سموتريتش، ففيما استقال الأول من الحكومة وانسحب من الائتلاف اعتراضًا على بنود اتفاق وقف إطلاق النار، بقي الثاني حتى لحظة كتابة هذه السطور مهددًا بالانسحاب وإسقاط الحكومة في حال عدم استئناف القتال، رافضًا جميع مناشدات بن غفير بالانسحاب معه من الحكومة.

بينما ذهب العديد من المحللين إلى الاعتقاد بأن منشأ هذا الرفض يكمن في أسباب تتعلق بمبدأ بقاء اليمين في السلطة، إلا أني أرى أن الأمر برمته لا يتجاوز المصلحة الانتخابية الضيقة لسموتريتش في هذه المرحلة بالذات، فاستطلاعات الرأي الأخيرة في إسرائيل منحت بن غفير تسعة مقاعد في الكنيست، بينما لم يتمكن حزب سموتريتش من تجاوز العتبة الانتخابية لدخول الكنيست من الأساس، وبذلك نشاهده ولأول مرة مجبرًا على التشبث بنتنياهو للبقاء في الساحة السياسية على الرغم من تهديداته المتكررة بإسقاط الحكومة.

ويفسر هذا الحماس الجامح الذي أبداه بن غفير للخروج من حكومة نتنياهو، وهو الذي يمني النفس بأن يتم تنصيبه وحزبه زعيمًا لليمين في إسرائيل خلفًا لنتنياهو وحزب الليكود مستقبلًا، الأمر الذي يكشف لنا مدى الشعبوية التي ينجرف إليها حاليًا جمهور اليمين في إسرائيل، والذي بات يركض وراء الخطابات الشعبوية الحماسية والعنتريات الجوفاء التي يطلقها بن غفير، في مقابل ابتعاده عن التخطيط الرصين والذكاء السياسي الذي يتمتع به سموتريتش!

والوضع على هذا النحو، فإن الشق المؤيد لبن غفير في تيار الصهيونية الدينية لابدَّ أن يسعى جاهدًا لتعويض هذه الانتكاسات في الملف الأقوى لديه، وهو ملف القدس والمسجد الأقصى – الذي يعتبره بن غفير حكرًا عليه – في مقابل تخصص سموتريتش في ملف الاستيطان في الضفة الغربية! ومن الجلي أن التحرك في هذا الاتجاه لا يزال يسير بخطى حثيثة لم تتأثر بما يجري في المنطقة، بل ربما تتسارع وتيرته في الفترة القادمة لتعويض النقص الذي طرأ في ملف غزة.

في أوج الصراع الداخلي خلال مناورات ومفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت قبل أسبوعين خبرًا عن إيداع لفافة مكتوبة يدويًا من التوراة في إحدى المدارس الدينية اليهودية في مستوطنة "موديعين عيليت" في الضفة الغربية (غربي رام الله) وسط احتفال صاخب، والسبب وراء هذا الاحتفاء بإيداع هذه اللفافة من التوراة في هذه المستوطنة هو أنها مخصصة لتوضع في كنيس داخل المسجد الأقصى المبارك بمجرد إنشائه.

وفكرة التوراة المكتوبة في لفافة واحدة هي تقليد راسخ ومتعارف عليه في الكنس اليهودية، حيث تُكتَبُ هذه النسخ يدويًا في العادة، وتستغرق سنوات لإعدادها وتجهيزها، وتكلف مبالغ طائلة، ولذلك فإن مشروع كتابة لفافة من التوراة يعتبر أمرًا ذا أهمية بالغة في التقاليد الدينية اليهودية.

هذه اللفافة تبرع بها الحاخام يسرائيل إلباوم، والد شمعون إلباوم الذي يشغل منصب المدير العام لوزارة شؤون القدس التي يرأسها الوزير مائير بوروش العضو في حزب (يهدوت هتوراه) الحريدي المتدين، وهو – للمفارقة العجيبة – لا يقتحم المسجد الأقصى ولا يدخله ويلتزم بفتوى الحاخامية الكبرى لدولة الاحتلال التي تحظر دخول اليهود إلى المسجد.

وعلى الرغم من ذلك، فإنه قدم هذه اللفافة لتكون جاهزة لإدخالها إلى المسجد الأقصى عندما يحين الوقت المناسب. ولكن الوقت المناسب في نظر جماعات المعبد المتطرفة وتيار الصهيونية الدينية هو الآن؛ فالحاخام شمشون إلباوم، (وهو من نفس عائلة "إلباوم")، والذي يطلق على نفسه لقب "رئيس مجلس إدارة جبل المعبد"، صرح بوضوح خلال حفل إيداع هذه اللفافة في مستوطنة "موديعين عيليت" بأن الخطوة اللاحقة هي بناء كنيس يهودي داخل المسجد الأقصى المبارك.

وبالنسبة لجماعات المعبد التي تشكل جزءًا هامًا من تيار الصهيونية الدينية، فإن خطوة إنشاء كنيس يهودي داخل المسجد الأقصى تمثل الهدف الاستراتيجي الأسمى في هذه المرحلة، وهي ترى أن الشخصية السياسية التي تجسد تطلعاتها هذه، هو الوزير السابق إيتمار بن غفير، وليس سموتريتش الملتزم بموقف الحاخامية الكبرى حتى الآن.

ولذلك، فليس من المستبعد أن تعمل هذه الجماعات في المستقبل القريب على محاولة عرقلة أي تقارب محتمل بين نتنياهو وسموتريتش لصالح بن غفير، على الرغم من الرشوة السياسية التي قدمها نتنياهو لسموتريتش بإعلانه عن عمليته العسكرية "السور الحديدي" في جنين شمال الضفة الغربية.

وهذا يعني أن الانقسام الداخلي في إسرائيل قد وصل إلى صميم تيار الصهيونية الدينية، وقد يتسع نطاقه في المستقبل القريب. لأنه بالنظر إلى استطلاعات الرأي في إسرائيل – كما أسلفنا – يبدو أن سموتريتش قد بات على قناعة تامة بأنه في حاجة إلى نتنياهو في الوقت الراهن أكثر مما يرى بن غفير ذلك.

ولا نستبعد أيضًا أن يحاول أنصار بن غفير في تيار الصهيونية الدينية التصعيد في القدس وفي الأماكن المقدسة في الفترة القادمة؛ سعيًا إلى رفع شعبيته ومكانته بين أتباع اليمين في إسرائيل، وفي المقابل، فإن سموتريتش يرى في العملية العسكرية الجارية في الضفة الغربية بمثابة طوق النجاة الذي يحتاجه بشدة للنجاة من فشل محتمل في حال انعقاد انتخابات قادمة، ليضمن له دخول الكنيست، ويكون رصيدًا ثمينًا له لدى مستوطني الضفة الغربية الذين يشكلون في مجملهم العمود الفقري لتيار الصهيونية الدينية، وخاصة جناح جماعات المعبد المتطرفة.

خلاصة القول إن التركيز في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار في غزة، سيكون كما توقعنا على القدس والضفة الغربية، في تنافس شرس وغير نزيه بين سموتريتش وبن غفير. وقد بدأ الأول بالفعل العمل في الضفة، وهو ما يحتم على الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس على حد سواء المبادرة إلى التحرك العاجل ضد هذين الطرفين؛ حتى لا يستفرد كل طرف منهما بقسم من الشعب الفلسطيني.

فكل دقيقة تمر في انتظار ما سيفعله نتنياهو وسموتريتش في الضفة من جانب، أو بن غفير وأنصاره في القدس من جانب آخر، هو بمثابة مؤشر على كارثة حقيقية يريد الاحتلال من خلالها تعويض إخفاقه المدوّي في غزة، واستعادة الكرامة المهدورة لجيشه التي دنستها منازل غزة المدمرة وصمود أهلها الأسطوري.

وإن تقاعس الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس عن القيام بالتحرك اللازم، فإن الطريق سيكون ممهدًا لاستكمال هذه المنافسة الشرسة بين أجنحة تيار الصهيونية الدينية على حساب أراضي الضفة الغربية شيئًا فشيئًا من الشمال إلى الجنوب.

وقد بدأ التحرك بالفعل الآن في جنين، وعلى حساب مقدساتنا الأسمى والأغلى في هذه المعركة، أي المسجد الأقصى المبارك. لا يرى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مشكلة في أي من هذين الطرفين، فهو يعتبر تيار الصهيونية الدينية برمته حليفًا له، ولا يعبأ بما إذا انتصر سموتريتش أو بن غفير. وذلك يرتب على الشعب الفلسطيني تحمل المسؤولية الأولى والأخيرة للدفاع عن أرضه ومقدساته بنفسه، وألا ينتظر مساندة من أحد ولا سيما إدارة الرئيس الأميركي الجديد.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة